بوح الأحد: ٱستكمال تمنيع المجتمع ضد الوباء خيار المغاربة الإستراتيجي

بوح الأحد: ٱستكمال تمنيع المجتمع ضد الوباء خيار المغاربة الإستراتيجي

A- A+
  • بوح الأحد: ٱستكمال تمنيع المجتمع ضد الوباء خيار المغاربة الإستراتيجي، خريف الإخوان نهاية مشروع و النار تلتهم ما تبقى من ربيع تونس، الطوابرية يعيشون أزمة هوية و ٱنتماء و أشياء أخرى

     

  • أبو وائل الريفي

    نبدأ بوح هذا الأسبوع من تقارير العديد من المؤسسات الوطنية والدولية، وضمنها صندوق النقد الدولي، التي تتوقع بأن الاقتصاد الوطني سيحقق نموا قويا هذه السنة بعد الركود الذي تحقق في السنة السابقة. وتُرجع هذه المؤسسات كلها السبب إلى حسن إدارة المغرب للأزمة الصحية والتدابير الوقائية والعلاجية التي اتخذها طيلة فترة الجائحة التي طالت مدتها والتقدم الملفت في حملة التلقيح التي انطلقت بوتيرة مبكرة وقوية بسبب القدرة التنافسية للمغرب على توفير اللقاح بكميات كافية في فترة مبكرة وبسبب قدرته على تحمل كلفته بعد القرار الملكي باعتماد مجانية التلقيح، وهو ما أفضى إلى تحسن الوضعية الوبائية في الآونة الأخيرة حيث يعرف معدل الإصابة والإماتة انخفاضا كبيرا مع ما ترتب عن ذلك من انعكاسات إيجابية. هي إذن تباشير تبعث على الأمل في أن يسترجع المغرب والمغاربة حياتهم الطبيعية ويغادر الجميع الوضعية الاستثنائية وآثارها النفسية والاقتصادية والاجتماعية مع وجوب الحفاظ على التدابير الوقائية والاحتياطات اللازمة تجنبا لانتكاسة جديدة، وخاصة في ظل الحديث مؤخرا عن ارتفاعات قياسية لحالات الإصابة من جديد. والواضح أن أجواء الجائحة ما تزال تخيم على العالم ولم يغادرها نهائيا، وهي حالة تستلزم الحذر الدائم من تفاقمها بسرعة.
    يتسع الحديث في الآونة الأخيرة عن ارتفاع حالات الإصابة في بريطانيا التي بلغت 40 ألف إصابة يوميا. وروسيا من جهتها قررت إغلاق أماكن العمل لمدة أسبوع بداية نونبر بسبب ارتفاع عدد الوفيات اليومية في مختلف أنحاء البلاد حيث سجلت رقما قياسيا جديدا ببلوغ عدد الوفيات 1028 ووصول عدد المصابين يوميا إلى 34073 إصابة جديدة. فهل سننتظر حتى تنتشر عدوى الإصابة من جديد وسطنا؟
    هل يمكن للمغرب أن يتحمل حالة إغلاق كامل، أو حتى جزئي، مرة أخرى؟ وهل يستطيع المغرب تحمل حالة حجر جديد؟ وما هي الآثار النفسية والاقتصادية والاجتماعية لمثل هذا القرار؟ بالتأكيد لا قدرة للبلاد على ذلك. والمتضرر من حالة الإغلاق هو الاقتصاد والتعليم والصحة، وستتضرر كل فئات المغاربة بدرجات متفاوتة. ولذلك فالسؤال الرئيسي هو كيف يمكن الموازنة بين الحفاظ على الصحة العامة وبين السير الأقرب إلى العادي للحياة العامة؟ هنا يبرز ثقل المسؤولية الذي يقع على عاتق صانع القرار.
    لم تتوان السلطات المغربية بمختلف أنواعها ومستوياتها في تغليب كفة الصحة العامة واتخاذ قرارات للحيلولة دون ارتفاع حالات الإصابة فعلقت وسط هذا الأسبوع الرحلات الجوية مع المملكة المتحدة وهولندا وألمانيا، ولم تقصر هذه السلطات في توفير اللقاح لكل المغاربة باعتباره، إلى حدود الساعة، هو الحل المتوفر للحد من انتشار الفيروس والتخفيف من آثاره. والملاحظ أن الحالة الوبائية تتحسن بشكل مترابط مع التقدم في حملة التلقيح. ويعتبر المغرب من الدول القليلة في العالم التي اعتمدت الجرعة الثالثة وعممتها لتعزيز فرص تحقيق مناعة جماعية وتفادي انتكاسة صحية ستكون لها انعكاسات على كل المجالات الأخرى، وهو ما يتعارض مع كل المجهود الذي تبذله الدولة للعودة بتدرج، ولكن بسرعة، إلى الحياة الطبيعية رغبة في المستقبل وأملا في انتعاش سريع لقطاعات كثيرة لم تخرج بعد من أزمتها، وتنفيسا على فئات واسعة متضررة من هذا الركود في تلك القطاعات.
    لذلك، كان يلزم اتخاذ خطوات وقائية جديدة ومناسبة لتجنب انتكاسة تعصف بكل المكتسبات، وتؤثر على السير الطبيعي للمرافق العامة والخاصة، وتزيد الضغط على المنظومة الصحية التي تستحق مواردها البشرية قسطا من الراحة بعد المجهودات الاستثنائية التي بذلوها طيلة السنتين الماضيتين. والأهم أن تدفع هذه الخطوات المغاربة للإقبال على التلقيح.
    هل التلقيح هو الحل؟ نعم، لحد الساعة ليس هناك حل غيره وكل الدراسات تشير إلى أن احتمال الإصابة عند الملقحين أضعف، وخطورة الإصابة عندهم أقل بكثير مقارنة مع غير الملقحين. والمثال الحي الذي يعيشه المغاربة يوميا هو تنازل منحى الإصابة وخطورتها بعد هذا التقدم الذي أحرزه المغرب في حملة التلقيح. والأرقام اليومية خير مثال.
    هل فرض إجبارية جواز التلقيح حل؟ نعم، هو جزء من الحل لتفادي حالة عدم الانضباط للتدابير الاحترازية التي تتزايد يوما بعد آخر بسبب شعور زائف ووهمي بالأمان غير مسنود بأدلة علمية وفي ظل احتمال ظهور متحورات جديدة لسنا بمأمن منها طالما أن الحدود مفتوحة والاختلاط على أشده.
    وهل طريقة اعتماد جواز التلقيح مقبولة بهذه السرعة والفجائية؟ نعم، ولا ننسى أن البلاد كلها في حالة طوارئ صحية، وأن خاصية هذا الفيروس هي المفاجأة وهو ما يلزم السلطات بيقظة تامة واتخاذ قرارات استعجالية كما يلزم الجميع بنوع من القابلية للتأقلم معها وحوافز للتطبيق حرصا على تجنب الأسوأ. جواز التلقيح إجراء إداري لتيسير الحياة العامة يجنب الملقحين، وهم غالبية المغاربة، كثرة التعقيدات الإدارية والبيروقراطية للحصول على رخص التنقل، ويجنبهم كذلك عدوى الإصابة جراء الاختلاط بغير الملقحين بدون مبرر، ويخفف العبء على الإدارة العمومية لتتفرغ لأعمال أخرى.
    ليس أمامنا حلول كثيرة، ولسنا في مأمن من انتشار جديد للفيروس في ظل موجة الارتفاع الحالية في دول أخرى، وغير مسموح نهائيا التهاون بخصوص كل ما يرتبط بالصحة العامة حتى لا يختل النظام العام فنندم جميعا لأننا لم نحسن الاستفادة من الهامش الذي كان متاحا وأفرطنا في التجاهل واللامبالاة، وغير مقبول كذلك التضحية بكل المكاسب السابقة وتعريض مصلحة البلاد والمغاربة للمخاطر. ولذلك وجب تفهم كل هذه الخطوات الظرفية والمؤقتة والتعامل معها وفق الهدف الذي اتخذت من أجله. في مثل هذه المناسبات، نحتاج لدولة قوية وسلطة شجاعة لتذكير المواطنين بالواجب. وكم سرني وأنا أتجول في بعض المناطق وأنا أرى هذا الإقبال على التلقيح الذي يؤكد أن الحاجة كانت ماسة إلى إجراء مثل هذا لتستوعب فئة من المواطنين خطورة الوضع والتداعيات الممكنة لذلك.
    إن إقرار حرية التلقيح من عدمه لا يعني حرية عدم الملقحين الذين لا يحملون معهم ٱختبارات سلبية في ٱرتياد الأماكن العامة، و بالتالي إجهاض ٱستكمال المجهود الوطني في تمنيع المجتمع لتسهيل عودة سريعة إلى الحياة الطبيعية و تنشيط الدورة الإقتصادية التي يتطلع لها الجميع.
    لم يتفاجأ أبو وائل وهو يتابع التطورات الأخيرة في البيت الإخواني على ضوء قرارات الطرد المتبادلة بين التيارات المتصارعة وسط أعلى هرم قيادة جماعة الإخوان المسلمين. لقد أصدر إبراهيم منير القائم بأعمال المرشد العام، المقيم منذ عقود في بريطانيا، قرارا بإيقاف ستة من قيادات الجماعة، مقيمين بتركيا، منهم خمسة أعضاء في مجلس الشورى العام يتقدمهم محمود حسين الأمين العام السابق مع إحالتهم على التحقيق. وبالمقابل، رد هؤلاء الستة، بإعلان قرار إعفاء إبراهيم منير من مهامه وبأن مجلس الشورى قد انعقد بنصاب قانوني واتخذ هذا القرار. والغريب أن القرار تم نشره على الموقع الرسمي للجماعة ليفهم بعد ذلك أن النشر تم بسبب كون واحد من المشرفين على الموقع من هذه المجموعة.
    لم يفاجئني هذا الصراع، ولن يفاجئني أي تطور من هذا القبيل وسط الجماعة الأم لتيارات الإسلام السياسي، وحتى من فروعها في كل العالم، لأن من خَبَرَ هذه التنظيمات وطريقة اشتغالها ومنهج تفكيرها يكتشف أنها قريبة من نهايتها ولم تعد لها القدرة على التأقلم مع التحولات التي يعرفها العالم، وتعرفها دولها، ويعرفها حتى أعضاؤها والمتعاطفون معها. إنها تسير بخطى متسارعة نحو حتفها، وكل ما تبديه من مقاومة لهذا المصير يمكنه تأجيل الموت الطبيعي فقط. لا جديد في ما يجري بالبيت الإخواني إلا خروج هذه الصراعات إلى العلن، وهو ما يبين أن مرحلة التستر على الغسيل الداخلي انتهت وأن حدة الصراعات بلغت درجة لم يعد ممكنا معها التستر عليها.
    لم تكن هذه أول أزمة تعيشها الجماعة، ولن تكون الأخيرة، ولن ينفع أنصار الإسلام السياسي تعليق شماعة هذه الأزمة مرة أخرى على عوامل موضوعية تختزل في حالة التضييق والقمع التي تعيشها. لقد سبق أن عاش إخوان مصر صدمة انفصال أبرز القيادات السياسية الشابة في تسعينيات القرن الماضي، وهي المجموعة التي أسست حزب الوسط والتي ترأسها حينها أبو العلا ماضي وعصام سلطان. اضطروا للانشقاق بعد معايشتهم للتردد والجمود داخل قيادة الجماعة. وسبق أن عاشت الجماعة تجربة الانشقاق بعد 2011 حين أسس عبد المنعم أبو الفتوح، القيادي والعضو السابق لمكتب الإرشاد وأحد بناة الجماعة في فترة السبعينيات في عهد السادات، حزب “مصر القوية”، وتابع الكل حدة الصراع ضده من طرف الجماعة التي اضطرت لترشيح مرسي في آخر لحظة بعد رفض ترشح خيرت الشاطر الممسك حينها بمفاصل الجماعة. والصراعات بين إخوان الأردن انتهت إلى تنظيمين كل واحد يدعي أنه التنظيم الأصلي للإخوان، وانشقاقات إخوان الجزائر حدث ولا حرج حيث انقسموا إلى أحزاب شتى.
    ومع ذلك، فمشكل هذا التيار ليس تنظيميا رغم أن هذا الجانب من الأزمة هو الذي يطفو على السطح كثيرا وسريعا لأنه يؤكد أن مشاكل التيار الإخواني أخلاقية قبل كل شيء، كما يؤكد أن هذه التيارات لم تعد لقياداتها تلك الكاريزما التي باستطاعتها أسر القاعدة لدرجة تتغاضى معها عن زلات القيادة. إنهم يتصارعون على السلطة والمصالح والمواقع والمال والولاءات، وهذا الصراع لم يعد يقتصر على القيادات الوسيطة ولكنه انتقل إلى أعلى مستويات القيادة بينما غالبية الصف تجنح نحو العاطفة والتفسير البسيط والسطحي بسبب مفعول الخطاب الوعظي والإرشادي وإغراقه في المثاليات. وهذه المرة كانت الاصطفافات أوضح وسط إخوان الخارج بين تيار انجلترا وتيار اسطنبول/الدوحة. يستنزف الإخوان رصيدهم بسرعة قياسية وتساهم أسباب الصراعات في فضح المخفي عن القواعد وعن الجمهور طيلة عقود من الزمن.
    من حسنات ما يسمى “الربيع العربي” أنه سرع ظهور حقيقة هذه التيارات، وكشف محدودية تيارات الإسلام السياسي، وفضح انتهازيتها، وعرى عدم واقعية برامجها، وفضح افتقادها لمنظرين ومفكرين ومثقفين. تتقن هذه التيارات تسويق الوهم وخلق الآمال الزائفة ورفع سقف الانتظارات الشعبية، وتستعمل جمهورها وتوظف مظلوميتها وتستغل الارتباط الشعبي بالتدين للوصول إلى السلطة، ثم تتراجع عن كل وعودها وتتخلى عن طهرانيتها المزيفة فتصبح مثل غيرها تستبيح كل شيء لتحقيق استمراريتها وحفاظها على مواقع السلطة وامتيازاتها.
    أكبر مكسب تحقق في العشرية الأخيرة هو نهاية هذا الأسلوب في تدبير الصراع السياسي، حيث صارت الشعوب العربية مقتنعة أن الفاعل السياسي الإسلامي لا قيمة مضافة له إلا استغلال الدين المشترك بين المسلمين لخدمة مصالح حزبية والتنكر له بعد ذلك.
    في هذا السياق ينبغي إدراج هزيمة العدالة والتنمية في المغرب. نال ثقة المغاربة لولايتين وقاد الحكومة وكانت أمامه فرصة من ذهب ليقدم بديلا في مستوى الآمال التي سوقها عن نفسه، ولكن كانت حصيلته كارثية على المغرب والمغاربة، فكان التصويت العقابي عليه من أنصاره أكثر من غيرهم، وهذا ما يفسر النتائج الكارثية التي حققها.
    هزيمة العدالة والتنمية ليست هزيمة انتخابية عابرة وعادية، وهي أكبر من هزيمة معرضةٌ لها كل القوى السياسية لأنها جزء من اللعبة الانتخابية والديمقراطية. إنها هزيمة خيار وبرنامج ومنهج وأسلوب للعمل السياسي، وهي هزيمة لخطاب ولأخلاقيات حركة كانت تتصور نفسها بديلا فاتضح بعد عقد من الزمن أنها لم تنتج حزبا متماسكا تنظيميا، ولم تنتج قيادة مختلفة عن غيرها من الأحزاب، ولم تقدم بدائل عملية من شأنها تحقيق تقدم للمغرب وتحسن في مؤشرات عيش المغاربة. ولذلك يلزم الحزب تجنب الاختزال وتصور أن مجرد مؤتمر استثنائي ذو طبيعة تنظيمية يغير القيادة الحالية كاف لتجاوز أعطاب الحزب. يلزم الحزبَ الدخولَ في مراجعات فكرية عميقة لأن أعطابه بنيوية، ويلزمه تحقيق الوضوح الكافي في أطروحاته وتحقيق القطائع اللازمة مع كل الماضي، ويلزمه فهم طبيعة المغرب وخصوصياته وتجنب منطق الإسقاطات المشرقية. لا يمكن للمغرب أن يكون مصر ولا تركيا ولا ماليزيا. المغرب هو المغرب فقط و لا شيء غير ذلك. ولا يمكن لمغرب تشكل عبر قرون أن يتكيف مع حركة عمرها عقود قليلة. لا تستقيم هذه المعادلة نهائيا. وللنجاح في هذا الورش العدالة والتنمية في حاجة إلى ما لا يقل عن عقد من الزمن للنجاح في ورش المراجعات الفكرية، وتعميمها كثقافة سياسية على كل أعضاء الحزب، وأجرأتها في برامج واقعية تناسب الواقع المغربي، وتكوين قيادات جديدة قادرة على تمثل هذه المراجعات في خطابها وسلوكها، وإقناع باقي شركاء الوطن بأن الحزب جزء من الوطن ومقتنع فعلا لا قولا ب”المشاركة لا المغالبة”. فهل سيسير العدالة والتنمية في هذا الاتجاه؟
    للأسف، كل ما يَرشَح من داخل الحزب لا يدعو إلى التفاؤل لأن التقاطب داخل الحزب يتخذ منحى صراع على المواقع ويستغرق الجهد كله في التكتيك عوض مراجعة الاستراتيجية. والأهم أن الواقعية لا تُستحضر في تفسيرات الحزب حيث ما يزال الكثير من أبنائه يغلبون نظرية المؤامرة والاستهداف للتغطية على الفشل والهزيمة. وهذه كلها مقدمات ستقود إلى إعادة تكرار التجربة نفسها بوجوه جديدة هذه المرة. ولن يكون بعدها بمستطاع الحزب مخاطبة المغاربة من جديد ونيل ثقتهم مرة أخرى كما كان سابقا.
    حزب العدالة والتنمية مطالب بمصارحة نفسه بالإجابة عن سؤال حقيقي: لو لم يكن هناك سياق استثنائي هل كان سينال ثقة المغاربة؟ وما الذي كان ينقصه حينها؟ وإن نال ثقة المغاربة ما سبب فشله التدبيري خلال الولايتين السابقتين؟
    ونحن نتحدث عن الفشل التدبيري لتيارات الإسلام السياسي لا يسع أبو وائل إلا تذكر حال تونس وما جناه عليها هذا التيار كذلك.
    رغم الصيت الواسع الذي كان يتمتع به الغنوشي قبل 2011، ورغم تقديمه كمفكر ومنظر فشل الغنوشي وحركة النهضة في إنقاذ تونس ولم يقدموا لها الوصفة المناسبة، أو بتعبير الغنوشي، الذي لم يستعمله على نفسه، لم تكن النهضة هي “العصفور النادر” الذي تحتاجه تونس، فأغرقت البلاد في أزمة اقتصادية واجتماعية أسوأ مما كانت عليه، وأنتجت دستورا يشرعن لنظام سياسي هجين ضعيف كان هو محصلة توافقات هشة بين تيارات لا امتدادات شعبية لها. كان قدر التونسيين عقدا من الزمن من تجريب هذا النظام فكانت الحصيلة نظام سياسي برؤوس ثلاثة متنافرة وكأن هذه وصفة لدولة طائفية والكل يعلم طبيعة تونس وشعبها المتنوع دون أن يصل ذلك إلى حد الطائفية. مرة أخرى اكتشف أنصار تيار الإسلام السياسي قبل غيرهم محدودية قيادات هذا التيار على تحليل الواقع وحسن معالجة مشاكله، وكانت الصدمة هذه المرة أكبر من تونس مع التصاق الغنوشي بالكرسي وقد بلغ من العمر عتيا وهو الذي وعد عند دخوله تونس عام 2011 بأن لا يتحمل أي مسؤولية. واكتشفوا حرص عبد الفتاح مورو الطاعن في السن على الترشح للرئاسة كذلك. وكل هذا يذكرني بأحد كبار مفكري هذا التيار حسن الترابي الذي لم يفلح إلا في الانقلابات التي مزقت السودان ونخرت قواه وقطعت أوصاله. وغير بعيد عن المغرب، يمكن الإشارة إلى تساقط منظومة عبد السلام ياسين وأحلام اليقظة التي ظلت تساوره بقومة لم يعشها وقد كان دائم التبشير بها، وهو الذي دخل في انتكاسة بعد 2006 ظل باقي عمره يبررها بالخطأ في تأويل الرؤيا، أو بسذاجة أتباعه أو استعجال النصر الذي لن يأتي. خطأ ياسين كان مثاليته وتصوره أنه قادر على مناطحة الملكية العريقة في المغرب والضاربة جذورها في ترابه وقد تصور أن بيده العصا السحرية باشتراطه ميثاقا إسلاميا للتلاقي مع مخالفيه وكأن شركاءه كفار، ثم ما لبث أن حوله إلى ميثاق وطني. ومن يدري كيف سيؤول الأمر بعد خلفائه.
    العمر الطويل لهذا التيار وتوسعه العددي والدولي لم يقابل بمراجعات فكرية حقيقية وتجديد فكري وغلب على قيادات التيار الإنتاج التنظيمي والتقليد الفكري واجترار الماضي والجمود على الموروث ولم يبرز من داخله مفكرون، بل كان كل من يفكر يطرد، وصارت تنظيمات هذا التيار عدوة الثقافة والإبداع والاجتهاد.
    اليوم، وبعد ثلاثة أشهر على إجراءات قيس سعيد التي تعاطف معها الكثير، لم تخرج تونس من وضعها السابق، بل تزداد الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية سوءا، ومشروع قانون المالية على الأبواب وأرقامه تتضمن مستقبل تونس المنتظر في السنة القادمة. والعلاقة بين الساسة تتدهور أكثر، والبلاد تتعرض لضغوط دولية من أمريكا والاتحاد الأوربي لإعادة استئناف الحياة البرلمانية وتوقيف الإجراءات الاستثنائية، وتم تعليق عضوية البلاد في الجمعية البرلمانية للفرنكوفونية، وتم تأجيل قمة الفرنكوفونية المقررة في نوفمبر القادم في تونس. هل يمكن في ظل هذه الأجواء جلب استثمارات؟ وهل يمكن أن تنتعش المقاولات والاقتصاد؟ إلى أين تذهب تونس إذن؟ هل هذا هو نموذج التغيير الذي سوقه الربيع العربي؟
    تعرض تونس نفسها للمخاطر إن لم تسارع بخطوات شجاعة وشعبية تعيد النظر في هذا النظام السياسي الهجين وتقطع الطريق على التقاطبات العمودية التي تنخر وحدة المجتمع وتضعف الدولة وتهدد أمن واستقرار المنطقة كلها. وتزداد حدة هذه المخاطر كلما تأخرت الإجراءات الاقتصادية والاجتماعية ذات الطابع الاستعجالي التي يمكنها أن تعيد جزءا من الثقة للمجتمع وللتوانسة لأن من شأن هذه الأجواء قيادة تونس لتصبح دولة عاجزة عن سد احتياجاتها وبسط الأمن على كل أنحاء البلاد.
    يستاء الطوابرية من هذا المصير لأنهم فقدوا الدولة التي سوقوا لها نموذجا، وهذا حالهم دائما. يصمتون عن هذه الكارثة التي أوصل إليها حكام الربيع العربي البلاد ويتفننون في البحث عن أسباب خارجة عن العجز والفشل والتلاعب بالمفردات والتحاليل. عقول طوابرية المغرب لا تصمد أمام هذه الحقائق وتبحث دائما عن ما يضر البلاد لتنفخ فيه وكأن فيها عيارات لا تجذب إلا ما يضر البلاد والعباد وتتجاهل كل المكاسب والإنجازات. عقول مثل العيار ينجذب للحديد ويترك المعادن النفيسة للأسف. آخر ما تفتقت به عبقريتهم هو الفرح بمصادقة الكونغرس الأمريكي على ميزانية وزارة الخارجية والتنصيص فيها على عدم تخصيص اعتمادات لإنشاء أو تشييد أو تشغيل أي قنصلية لأمريكا في الصحراء المغربية. ظن الطوابرية أن هذا انتصار لهم وتراجع عن الاعتراف الأمريكي بمغربية الصحراء. هؤلاء هم أشباه وأنصاف المحللين الذين يحرك الحقد والكره عقولهم قبل عواطفهم. هؤلاء هم من يسرهم الإساءة للمغرب والمغاربة. هؤلاء هم من يستحل الكذب الذي يتضح بسرعة البرق أن حبله قصير. هل يمكن أن يصادق على ميزانية دولة في أكتوبر؟ وهل فعلا يعني مرور قرار مثل هذا جديدا؟ وهل يمكن التعسف في تفسير تداعياته بأنه سحب لاعتراف أمريكا بمغربية الصحراء؟
    للأسف، لا شيء من كل ذلك صحيح. فالإدارة الأمريكية دأبت على تقليص اعتماداتها بخصوص القنصليات، وفتح قنصلية أمريكية بالداخلة ليس شرطا مغربيا استعجاليا ولن يضيف للمغرب ومغربية الصحراء والاعتراف الأمريكي به قيمة مضافة. الاعتراف الأمريكي بمغربية الصحراء حقيقة واقعية ومعطى قانوني وهو قرار دولة وغير مرتبط بخيار حزبي أو مزاج شخصي. وقرارات الدول منزهة عن العبث ومصانة عن هذه الخفة التي يتصرف وفقها الطوابرية. الطوابرية سيصابون بالنكسات تلو النكسات طالما أنهم يفكرون بهذا المنطق الحاقد على البلاد، ويحصدون العواصف لأنهم لا يجنون إلا الريح. وأكبر عاصفة يعرضون لها أنفسهم هي غضب المغاربة حين يصطفون ضد تعلقهم بترابهم وجزء لا يتجزأ من هويتهم وكيانهم.
    الحمد لله أن للبيت ربا يحميه و لهذه الأرض من يؤمنون بها حتى الموت، لا تهمهم “زريعة” بوحمارة الذين يمنون النفس بٱنتكاسة المغرب، لكنهم يلهثون وراء السراب، فالمغرب قوي برجاله و نسائه الصامدين خلف الجدار الذين يضحون من أجل عزته، فالمغرب أعز و أغلى منا جميعا. و إلى البوح القادم

  • المصدر: شوف تي في
    تعليقات الزوّار (0)

    *

    التالي
    الجمعة: هطول أمطار رعدية بالمناطق الجنوبية وبمرتفعات الأطلسين المتوسط والكبير