البكالوريا كقيمة اجتماعية

البكالوريا كقيمة اجتماعية

A- A+
  • أنهى التلاميذ المغاربة اجتياز امتحانات البكالوريا بمستوييها الوطني والجهوي، العلمي والتقني والمهني والأدبي، الأحرار والمرشحون الرسميون… تعددت الأسماء والمحتوى واحد، وانطلقت عملية التصحيح، في انتظار المداولات والإعلان عن النتائج، ملايين الدراهم صرفت، جهود مجتمع كلها أصبحت تستثمر في التعليم، أسر تعاني من كلفة مرتفعة لتعليم أبنائها، ودولة تصرف الملايير، لكن المضمون واحد وهو، الانحدار الخطير في التعليم، إذ ما هي القيمة الاجتماعية للتعليم اليوم؟ ما الذي تضيفه البكالوريا لتلاميذنا لتأهيلهم لسوق العمل ولمواجهة الحياة؟
    كانت شهادة البكالوريا مجالا للترقي في السلالم العليا للتعليم العالي ومدخلا للتأهيل نحو سوق الشغل، وأيضا بابا للترقي الاجتماعي، فقد نجح الكثير من بنات وأبناء جيلنا في إنقاذ أسرهم من وضع اجتماعي متواضع إلى وضع اجتماعي أرقى، بعد حصولهم على البكالوريا مباشرة وقضاء سنتين أو أربع في إحدى المؤسسات الأكاديمية أو المهنية ليجدوا أنفسهم مؤهلين للعمل بأجر يسمح لهم بإنشاء بيت وتكوين أسرة والتكفل بعناء مصاريف البيت، بل وحتى إنقاذ باقي أفراد الأسرة الكبيرة التي انحدروا منها واستمروا في تحمل أعباء وتكاليف عيشها بحكم الطابع التضامني للمجتمع المغربي..
    لم يعد الآباء وأولياء الأمور اليوم مهتمين بغير البكالوريا، يريدون لأبنائهم أن يصلوا إلى عتبة البكالوريا بأي ثمن، لذلك تصبح دراسة الأبناء في سنتي البكالوريا محط اهتمام كل الأسر المغربية، ويبدل الآباء والأمهات مجهودا غريبا في سبيل حصول أبنائهم على شهادة البكالوريا فيخصصون جزءا وافرا من المال لدروس الدعم والتقوية، وتجد الآباء والأمهات ينقلون أبناءهم ليلا إلى مدارس بعيدة خاصة بالدروس الخصوصية أو يستقبلون أساتذة أصبحوا بدورهم يلهثون من أجل تقديم الدروس ليس حبا في عيون التلاميذ ولكن مقابل ما يجنونه من مال يتغلبون به على خصاص أجرهم الهزيل.. لم تعد البكالوريا تعني اليوم سوى التسابق للحصول على النقط الأولى بأي ثمن، لأنه بدون معدلات كبرى لن يتمكن التلاميذ من اجتياز مباريات المؤسسات العليا العمومية للتعليم الأكاديمي التي لا زال فيها بعض الضوء، وخوفا من التكاليف الباهظة والمرهقة للأسر في حالة عدم قبول أبنائهم في المؤسسات الجامعية العمومية، ليجدوا أنفسهم أمام مصاريف خيالية ترهق ميزانياتهم المتواضعة أصلا.. لم تعد الأسر تهتم سوى بنجاح أبنائها بأي وسيلة، فتجد أن أولياء الأمور مع قرب كل نهاية السنة من البكالوريا يتقاطرون على المؤسسات التعليمية ويتصلون بالأساتذة لتسول النقط لأبنائهم بكل الأساليب المشروعة وغير المشروعة.. بل هناك أسر يتعاون كل أفرادها على إعداد وسائل الغش لفائدة أبنائهم، لقد غدا النجاح هو المهم ولا يهم الطريقة التي يتم بها حتى ولو كانت غشا وتدليسا وتزويرا… يعدون «الحروزة» لأبنائهم ويبحثون عن الطابعات ووسائل التكنولوجيا المتطورة التي تخرج أدق أشكال «النقلة» تسهيلا لفلذات كبدهم لاجتياز البكالوريا.
    وهكذا أصبحت النقلة حقا مكتسبا، يدافع عنها التلاميذ ضد هؤلاء الأساتذة «المساميم» الذي «يزيرون الطرح»، ويعجبهم الأساتذة المتسامحون عديمي الضمير الذين يتطوع الكثيرون منهم لتقديم الأجوبة للمتبارين أو على الأقل لعب دور الكرماء بترك النقلة على مصراعيها، بل إن بعض الأساتذة يقومون بدور الحراس ليس ضد غش التلاميذ بل ضد الإدارة لينبهوا التلاميذ النقالات والنقالين بجمع الحروزة، ليقال عنهم إنهم ظرفاء و« الله يعمرها دار، متسامحين» حتى وإن كانوا يخلون بواجب مقدس في الامتحان هو تساوي وتكافؤ فرص وحقوق كل المتبارين.
    بل إن بعض مدراء مراكز الامتحان الخاص بالبكالوريا، لم يعودوا يسندون الأقسام النهائية في التعليم الثانوي للأساتذة الجادين والصارمين كما كان عليه الأمر أيام زمان، بل أصبحوا يتفادون وجع الرأس، ويأتون بالأساتذة حتى من غير ذوي الكفاءة لتكليفهم بمستويات البكالوريا، «باش يطلقوا يديهم في الامتحان، واللي تيحرس يدير عين ميكا»، كل واحد أصبح يبحث فقط عن سل شوكته بدون وجع دماغ، هذا كله حول البكالوريا إلى شهادة بلا مضمون وبلا ذكاء وبلا أهلية ولا تكوين…
    بالأمس كانت البكالوريا مجالا للترقي الاجتماعي والمعرفي، أما اليوم فالتلاميذ يحسون أن البكالوريا بلا قيمة، ويحرزونها فقط إرضاء لخاطر أسرهم، لذلك أصبحنا نجد طلبة في التعليم الجامعي يتيهون بين تخصصات عديدة في سنتهم الأولى يجربون حظهم في كل التخصصات ولا يفلحون لأنهم يفتقدون للتكوين، ولأنهم حصلوا على بكالوريا مزيفة بلا قيمة علمية، أعتقد أن تقارير المجلس الأعلى للتعليم عرت على الكثير من الآلام في الموضوع، لكن ماذا بعد، ألم يحن الوقت لإيقاف كل هذا العبث؟

  • المصدر: شوف تي في
    تعليقات الزوّار (0)

    *

    التالي
    الدار البيضاء: المستشفيات تعرف نقصا بسبب البريفي رغم وجود 60% من الأطباء